أمريكا تريد والصين تريد والله يفعل ما يريد.. هكذا جاء جند من جنود الله ليلقن البشرية درسًا قاسيًا، ويضع البشرية فى اختيار صعب أمام الثروة أو الحياة.
ولأن الطمع هو من أخرج آدم من الجنة فربما الجشع هو من سيخرج أبناءه من الدنيا بعد الإصرار المتواصل لدى القوى الكبرى على التناحر وإشعال صراع النفوذ عبر تسيس الفيروس عوضًا عن التعاون من أجل إنقاذ الإنسانية من الهلاك بالجائحة أو بالجوع والفقر الذى يتبع الوباء.
تناحر عالمى يتجاهل نعوش مئات الآلاف ممن لقوا حتفهم جراء فيروس كورونا، بالإضافة لملايين المصابين سيخلفهم هذا الوباء، لكن إنصافًا للحق فإن الغرب هو من رفع عن الإنسانية نخوتها فور أن قذفت الولايات المتحدة الأمريكية الصين بالاتهامات منذ بداية الأزمة بعد أن سيطر على ترامب هاجس أن ما يحدث هو حرب كونية لإسقاط الاقتصاد الأمريكى فى حين أن الصراع تحول من كونه اقتصادى إلى مبارزة سياسية لأنظمة تناحرت من قبل.
أضفت الجولة الأولى بعد الحرب الباردة بفوز الليبرالية الغربية على الاشتراكية الشرقية لتتوحش تلك الليبرالية وتنتج ما يعرف بالعولمة، وتم تصدير للمجتمع الدولى ما يعرف بصراع الحضارات الأمر الذى تنافى أيضًا مع ما صدّرته التجربة الغربية من مفاهيم تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان وما تبعه من توظيف لتلك المفاهيم لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية لتلك الكتلة، فى حين حاول الشرق الحفاظ على ما يمكن إنقاذه، خصوصًا فيما يتعلق بالتصدى للغزو الثقافى والفكرى، بينما اندمجت فى النظام الاقتصادى العالمى الذى أسس قواعده الغزو.
أما الدول التى رضخت واستجابت لرياح الخريف العربى التى استخدمها جماعات الإرهاب والتطرف لتمرير الفوضى فقد وقفت على حافة الهوية تنتظر التفتيت ومن ثم إفشال الدولة من الداخل، وبين دول الشرق القوية التى صمدت أمام النظام العالمى الجديد الذى تشكل بعد الحرب الباردة وبين تلك التى تساقطت وفشلت، ففى اللحظة التى كاد فيها الغرب يضرب ضربته القاضية ويسيطر على صناعة السياسية والاقتصاد حول العالم، جاءت الحكمة الإلهية التى بمقتضاها يتحقق العدل والتوازن فى القوى بين الجانب الغربى والشرقى.
حضرت الجائحة فى التوقيت المناسب لتعيد للعالم توازنه وتخلق نظامًا عالميًا جديدًا، فكما حدث بعد الحرب العالمية من تشكل جديد للمجتمع الدولى سواء على صعيد منظماته أو أفراده وتفتت للتكتلات الشرقية وسقطت الاشتراكية فإنه بزوال الجائحة سيحدث العكس فستسقط التكتلات الغربية ويعاد ترتيب الأسرة الدولية ويعدل تشكيلها بحسب المتغيرات التى ستحدث ونراقبها حاليًا سواء على الصعيد الاقتصادى أو السياسى أو حتى الاجتماعى والإنسانى.
ومن أبرز ما يمكن رصده كأحد بوادر هذا التغير هو فشل الأنظمة السياسية الفيدرالية فى إدارة أزمة جائحة كورونا فى حين نجحت الأنظمة السياسية المركزية فى تخطى ذروة الجائحة بنجاح، فعلى سبيل المثال تضارب القرارات بين الرئيس الأمريكى وعمدة نيوريوك بشأن الإغلاق الكامل آثار فوضى كبيرة فى إدارة الازمة وصلت لنزول المواطنين الأمريكان فى مظاهرات تعبيرًا عن آراءهم بعد أن فشلت النخبة الحاكمة فى الاتفاق حول السبيل الأمثل للخروج من الأزمة.
هذا بالطبع لن تجده فى دولة ذات نظام مركزى مترابط الأركان، ولديه تنسيق وانسجام تام بين أطرافه بما يخدم مصلحة الوطن بعيدًا عن المصالح الحزبية، فالأمر تحول فى أمريكا إلى صراع انتخابى ومن لديه قدرة أكبر للسيطرة على الأرض الديمقراطين أم جمهوريين لتسقط الديمقراطية الأمريكية أمام اختبار كورونا ويسقط معها الوهم كونها النموذج الأمثل للتطبيق فى مختلف دول العالم فى حين أثبتت التجربة ان الدول التى تحقق نجاح سياسى أو اقتصادى هى التى تفصل تجربتها الخاصة،
وفقًا لمعطياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وأيضًا الاجتماعية ما يشكل تجربة فريدة لكل دولة ترتكز على هويتها الوطنية وشخصيتها المؤثرة فى الداخل والخارج وهو ما يمكن متابعته فى التجربة المصرية التى رفضت النماذج والقوالب السياسية والاقتصادية المعلبة من الخارج وصممت لنفسها بما يتوافق مع طموحاتها المستقبلية.. أيضًا يتفق مع إرثها الثقافى والحضارى فوجدنا تجربة قوية وصامدة امام كافة المتغيرات الدولية قادرة على إحداث توازن فى علاقاتها الخارجية والتأثير فى محيطها الإقليمى والدولى وفى نفس الوقت تحقق نجاحات اقتصادية وتنموية واجتماعية فى الداخل.
ما يجب على المجتمع الدولى الجديد الذى سيولد بعد كورونا إدراك أن هيمنة القطب الواحد ومحاولة تكبيل العالم بنمطه السياسى والاقتصادى يؤدى فى النهاية إلى سقوط تلك الأغلال وانهيار تلك القوالب العالمية التى تعيق الطريق قط معظم الأحيان أمام الدول النامية للتقدم والإزدهار.
فليتشكل العالم من جديد عبر دول قادرة على الاحتفاء بشخصيتها وهويتها بعيدًا عن عولمة الهوية، دول تختلف من حيث مكانها السياسى والاقتصادى والاجتماعى ولكنها تتفق إنسانيًا وأخلاقيًا، عالم يعيد صياغة حقوق الإنسان وفق احيتاجات الإنسان لا وفق احتياجات القوى المهيمنة على العالم، لتسعد الأرض بأهلها ومجتمعها الدولى الجديد الذى تستعد الطبيعة لمنحه المزيد من الخيرات بعد أن اتخذت هى أيضًا هدنة استردت فيها عافيتها نوعا ما، فالإنسانية أمام درس صعب إن تعلمته وتجاوزت الاختبار فازت فوزًا عظيمًا، بينما التناحر والصدام سيودى بالبشرية إلى ما لا يحمد عقبه فلتتنازل القوى الكبرى عن صراع النفوذ لنحيا جميعا فى سلام.
– كورونا .. والنظام الدولي الجديد لـ محمود سيد