بقلم : د/ سارة عبدالخالق محرم – أصبح التحرش مشكلة كبير على كافة المستويات ، إنتشرت في مجتمعنا المصري كالنار في الهشيم، لم تفرق بين مدينة أو ريف، ولا فرق بين كبيرة أو صغيرة و لا بين محجبة أو سافرة، كلهن يتعرضن لذلك، حتى باتت تؤرق المجتمع بها والمدريكين لخطورتها، التحرش الجنسي ليس بظاهرة جديدة في مجتمعنا، فهو يمثل أحد أشكال العنف التاريخي ضد المرآة، فهو ممارسة قديمة غير منظروة، إلا أنه أضحى اليوم بفعل كثرة وسائل الميديا وانتشارها مشكلة اجتماعية واسعة الانتشار في مجتمعنا.
التحرش الجنسي هو ذلك السلوك الذي يهين الفرد ويقلل من قدره استنادًا لنوع ذلك الفرد، أما التحرش الجنسي بالأنثى فيشير على كل سلوك أو فعل يصدر من ذكر ضد أنثى رغمًا عنها، سواء كان بالنظر أو اللفظ أو الاحتكاك الجسدي، وقد يترك هذه الفعل أو السلوك أذى نفسيًا أو ماديًا أو اجتماعيًأ لدى الأنثى التي تتعرض له. والتحرش لدى الأنثى ما هو سوى سلوك حيواني شهواني يقلل من قيمتها وإنسانيتها وأنوثتها ذلك السلوك الإجرامي يتضمن إنتهاك لحريتها من مضايقات جنسية تتمثل في نظرات فاحصة للجسد، وألفاظ ذات مغزى جنسي صريح، وطلبات جنسية قد تكون مصحوبة بتهديدات.
أظهرت نتائج دراسة أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة أن حوالي 99% من النساء المصريات قد تعرضن لصورة ما من صور التحرش الجنسي. استخدم هاني هنري، أستاذ مساعد بقسم علم النفس ورئيس قسم علوم الاجتماع والإنسان والنفس والمصريات بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، النظرية النسوية في دراسة رؤية المتحرشين لهذا الفعل وتقديم فهم أعمق للتحرش على أنه تمييز جنسي وليس فعلاً جنسياً. يقول هنري “تفترض النظرية النسوية أنه يجب أن يُنظر للتحرش على أنه تمييز جنسي يهدف لإخضاع المرأة وعدم تمكينها، ومعاقبتها على تنافسها مع الرجل للحصول على العمل والمراكز المتقدمة. تدعو هذه النظرية للنظر إلى التحرش على أنه تمييز للنوع يعكس رغبة الرجل في فرض سيطرته وخضوع المرأة وهو الأمر المقبول من المجتمع.”
تعمل دراسة هنري” على إعادة بناء النظرية النسوية بالنظر إلى عوامل ثقافية مصرية معينة والتي قد تنقح هذه النظرية وتجعلها أكثر ملائمة للثقافة. فقد كشفت المقابلات الشخصية، التي أُجريت مع بعض الذكور المعترفين بارتكابهم فعل التحرش، أن بعضهم يلوم النساء على ذلك لأنهن يتركن بيوتهن ويبحثن عن العمل.
الحق أن التحرش ظاهرة اجتماعية منتشرة في كل المجتمعات الإنسانية لا تقتصر على مجتمع بعينه أو ثقافه بذاتها. ولقد أظهرت العديد من الاحصاءات والدراسات العلمية أن تلك الظاهرة تتزايد زيادة ملحوظة في المجتمع العربي، وأصبحت أكثر انتشارًا في مجتمعنا المصري فأصبحنا نواجهها في كل مكان سواء في العمل أو الشوارع أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن أن نسمي أسباب انتشار هذه الظاهرة والتي يمكن أن نسميها الأسباب النمطية للتحرش، والتي تدور عادة حول أزمة عملية التنشئة الاجتماعية في الأسرة، وضعف الضوابط القانونية، وغياب القيم الأخلاقية، وفشل النظام التعليمي وسطوة وسائل الإعلام إسامها بشكل غير مباشر في زيادة معدلات الظاهرة .
عندما تثار هذه القضية، ونستمع لآراء الناس حولها، نجد الكثير من القصور في النظر، مع إصرارا كامل على أن آرائهم هي الصواب المطلق، مع إنها آراء بنيت على أهواء ليس أكثر، من ضمن هذه الآراء، هي المحاولات المستميته بتحميل الفتيات وحدهن المسئولية الكاملة عن تلك الجريمة، وأنها لو لم تخرج من بيتها سافرة بغير حجاب، وبملابس ضيقة مثيرة للشهوة، مخالفة لأحكام الشرع الحنيف، والأعراف والتقاليد، ولولا سلوكها السيئ وتصرفاتها المشينة وحركاتها، لما تعرضت لما تعرضت له من هؤلاء الذئاب، متناسين أن هؤلاء الذئاب المستترين في صورة بشر لا يفرقون بين ملتزمة بالزي الشرعي وغير الملتزمة، وإن كان تعرضهم لغير الملتزمة أكثر بالطبع، إلا أنهم يتعرضون أيضًا للمحجبات والمنتقبات، وهو ما يؤكد أن الفتاة لا تتحمل المسئولية وحدها.
وهذا يؤكد الهيمنة الذكورية في مجتمعنا، المرأة في وعي مجتمعنا الذكوري تمثل ذلك (الشئ القابل للتملك)، وهو ما يجعلها عرضة للتحرش ولهؤلاء الذئاب، فالفتاة لا تتحكم في الحياة العامة بل هي ملك له ويجعلها عرضه للتحرش الجنسي،ويتجلى ذلك بشكل عام في تلك السلطة التي يتملكها الذكر – بصرف النظر عن مستوى تعليمه وسنه ووعيه – ويمارسها على الأنثى – بغض النظر عن قدراتها الفكرية والاجتماعية – ويفاقم تلك الهيمنة تراث راسخ من القيم والمعتقدات الشعبية العتيقة. فالمرأة لبعض الرجال هي جسد جنسي يوجد للحياة العامة؛ وبالتالي فهي أيضا ملك لهم. إن خروج المرأة إلى الحياة العامة، في التصور الذكوري، يعني خروجها من كونها ملكًا خاصا للرجل (الأب، الزوج، الأخ، إلخ) بحكم وصايته عليها؛ إلى كونها ملكًا مشاعًا يحق للذكر، أيًا كان، أن يتملكه، وهذا التمثل يكرس دونية المرأة إزاء الرجل.
تجلت صورة المرأة في المخيلة الذكورية في اختزالها في مجرد جسد فاتن، وتغييب المرأة كفاعل اجتماعي واع يسهم مع الرجل جنبًا إلى جنب في نهضة الأمة وتطورها. كثيرين من أبناء المجتمع المصري ينظر إلى المرأة باعتبارها جسداً Woman is a body أي أنها جسدًا خالصًا بما تتضمنه هذه النظرة من مضامين دونية وشهوانية ولا يراها كائناً اجتماعياً يمتلك جسداً has a body مثلها مثل الرجل سواءً بسواء.
ولذا فإن المرأة ما خرجت إلى الحياة العامة لتمارس حقوقها– من وجهة النظر الذكورية المهيمنة – إلا لكي تثير شهوة الرجل وتحرضه على التحرش بها. فالمرأة، من هذا التصور، هي المسئولة عن التحرش الذي تتعرض له. لذلك وجب عليها، إذا سعت للخروج إلى الحياة العامة أن تستر جسدها، وأن تلتزم التحفظ والتخفي في مشيها وتحركها، ولا ينبغي لها أن تثير الرجل، والحقيقة أن تلك الرؤية تمثل أيضًا إدانةً للرجل وتجرده من إنسانيته، إذ لا تحركه إلا غرائزه الشهوانية.
في المقابل نجد المنظمات النسوية التي تطالب بحرية الوصول إلى المرأة وحرية المرأة في فعل ما تريد، تحمل الشباب المسئولية الكاملة عن تلك الجريمة، رافضة أي حديث يدور حول ضرورة احترام الأعراف والتقاليد والشريعة الإسلامية، أو الالتزام بالسلوك القويم، زاعمين أن الحرية تمنح المرأة الحق في فعل كل شئ دون أن يكون هناك تعقيب على فعلها، أو مواجهتها ورفض هذه الأفعال.
ولكن تحميل طرف واحد فقط مسئولية هذه الجريمة، هو بالتأكيد خطأ فادح، فالذي يتحمل مسئولية هذه الجريمة هم الشباب الذين اخترقوا كل القيم والأخلاق والعادات والتقاليد الاجتماعية، وباتوا ذئابا بشرية لا تفرق بين الإنسانية والبهيمية، والفتيات اللاتي اعتقدن أنهم في عالم خاص بهن أو أنهن أحرار فيما يفعلن، فصرن كاسيات عاريات مائلات مميلات، فاتنات مضلات، وكذلك فإن المجتمع والإعلام والمؤسسات التربوية كلهم مسئولون عن هذه الجريمة بشكل أو بآخر.
هناك عدة عوامل ساهمت في تفاقم ظاهرة التحرش الجنسي، فأصبح التحرش أمرًا طبيعيًا في ظل تراجع منظومة القيم الأصيلة المرتبطة بضرورة حماية المرأة والدفاع عنها ضد أي اعتداء، لقد كان دفاع الشاب عن جارته، وابنة منطقته، من القيم الأساسية في مجتمعاتنا لفترة طويلة، ومؤشرًا لشهامة أبناء البلد ومرؤتهم. وأيضًا التراجع الكبير لدور الأسرة في التنشئة الاجتماعية، وضعف الخطاب الديني وضحالته وابتعاده عن مناقشة القضايا المهمة التي تمس قطاعات واسعة من المجتمع ومنها الشباب بطبيعة الحال، وانحسار اهتماماته في قضايا فقهية ضيقة.
ويبقى السؤال أو التحدي كيف نواجه تلك الظاهرة؟ نرى أن ثمة آليتين لمواجهة الظاهرة، إحداهما آلية سريعة، والأخرى بعيدة المدى، يتمثل الحل السريع في المواجهة القانونية الصارمة لكل صور التحرش وتشديد العقوبة على مرتكبيها، أما الحل بعيد المدى فهو وضع برنامج اجتماعي شامل لتنمية فكر وثقافة احترام المرأة، وتغيير نظرة المجتمع إليها، ومحاصرة القيم الاجتماعية الجديدة التي تختزل المرأة في البعد الجسدي العضوي، وتطوير الخطاب الديني وتعميقه، وإعادة الأسرة لدورها الريادي في التنشئة الاجتماعية وتلقين الأجيال الجديدة كل القيم الإيجابية المتعلقة بالمرأة باعتبارها كائنًا اجتماعيًا وإنسانيًا يشارك بقوة في نهضة الأمة. ولا شك أن للقيادات النسائية والرجال المهمومين بقضايا المرأة ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية دورًا كبيرًا في تفعيل ذلك البرنامج وإنجاحه . ولابد وأن يتعلم هؤلاء المتحرشين التعاطف مع الآخرين وفقاً لهنري، قائلاً “لابد وأن نساعد هؤلاء على الرؤية بمنظور المرأة وأن يضعوا أنفسهم مكانها. من المهم أيضاً تقديم فكرة المساواة بين النوع إليهم. ومع الآسف، هناك الكثير من الرجال الذين ينشئون اجتماعياً على فكرة أن المرأة ناقصة الأهلية وتابعة للرجل. وفضلاً عن ذلك، يجب أن يعي المتحرشين الضرر النفسي الذي يلحق بالمرأة التي يتحرشون بها.”
إننا بحاجة إلى تكاتف أفراد المجتمع كلهم، ومؤسساته التعليمية والتربوية والدينية ومؤسسات المجتمع المدني والأجهزة الإعلامية، وأجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، من أجل مواجهة هذه الجريمة التي تزداد يومًا بعد يوم، وإلا سنكون أمام كارثة حقيقية.